Custom Rich-Text Page

home poem1 poem2 poem3 poem4 poem5 poem7 Articals







أن ترى أحصنة بلون الرماد , أحصنة زرقاء , يشطبها رماد بلا لون , رماد قاتم , تحس وأنت تحدق فيه أنك تحولت من الداخل إلى كلس ونثار أحجار , أن ترى أحصنة , بوجوه , كأنها وجوهنا , أحصنة تشبه الناظر إليها , وهو يتفرس في ملامحها , أن ترى كل هذا وأكثر منه , مغامرة تدعوك إليها للوهلة الأولى لوحة الفنان العراقي المغترب محمد رسول البستاني :

لا أدري لماذا أحسست للمرة الأولى وأنا أنظر إلى تلك اللوحة أن أحصنتها كانت في البدء زرقاء ثم ألغيت زرقتها بهذا اللون الشرس الذي يخاطب المتلقي بلغة قوية وكأنه يصيح به من البعيد .
لطالما كانت الخيول والأحصنة مادة فنية رائعة , خاصة في الفنون البصرية , ولقد وجدناها حاضرة دائما في ذاكرة العراقي التشكيلي منذ القدم , منذ أن كانت اللوحة تجسيدا لمنجزات الإنسان العراقي في أرض الرافدين حتى هذه اللحظة , مرورا – بالطبع – بوجوه الأحصنة في لوحات كاظم حيدر , وكتل العضلات البارزة في حصان جواد سليم في نصب التحرير , ومن دون شك فوق كل هذا وذاك الألوان التي انتثرت من ريشة المبدع الكبير فائق حسن وهو يضع في حلبة السباق الفني أحصنة , لا يمكن أن تغيب عن البال مهما بعدت بك الشقة عن عالم الفن .

محمد رسول البستاني العراقي التشكيلي المغترب , هو الآخر اليوم يرسل إلى المضمار خيولا أو أحصنة , تقول الكثير , لكن بدقة وتركيز بالغين , كأنما هو أطلقها من مرابطها منذ زمن , وترصدها وهي ترتسم على وجوهها هذه النظرات والملامح بعد أن طال بها التجوال شرقا وغربا , ثم عاد ليلتقط منها هذه النظرة الوالهة التي تأخذنا بعيدا في عالم خيال وحقيقة يتحدان معا , ليتشكل في أفق اللوحة معناها ومفرداتها .
محمد رسول البستاني ينتزع منك من الداخل مفردات لوحته , ولذا فهو قادر دائما على التأثير فيك وأنت تنظر إلى ما يتركه على البياض من عوالم , قد يراها المتلقي العادي معتمة , وباردة , لكنها في الواقع آسرة في تنوع ألوانها وإشراقاتها .
قبل أكثر من خمسة عشر عاما حدثني صديقي الشاعر العراقي احمد الشيخ علي عن إحساس غريب يراوده , دائما , قال : كأنني أرى حصانا أزرق يدور معي أينما اذهب داخل البيت , يدخل معي غرفة النوم ويتجول معي في الصالة وحتى في المطبخ , وغرفة الجلوس , يومها فهمت ما يقول بشيء من الرومانسية الحلمية , وقلت له إن هذا خيال خصب وشعرية عالية تنام وتصحو معك دائما .
اليوم – ومنذ وصلتني لوحة الخيول لمحمد رسول البستاني وأنا أعيش معها , بدقة ذلك الوصف الذي نقله لي صديقي الشاعر احمد الشيخ علي , فخيول تلك اللوحة لا تفارقني ليل نهار , وليس الأمر حلميا أو تصورا شاعريا كما قد يتخيله البعض , بل هو حقيقة خالصة , ودقيقة تماما , فهي – أي تلك الخيول – تتغدى معي وتأخذ شايها معي وأحيانا حين افتقد وجودها المادي الحقيقي أحسها جالسة في الغرفة الأخرى تتحدث إلى صغاري , أو هي في باحة الدار واقفة أو مستلقية هنا أو هناك , ترى هل يمكن للوحة أن تفعل كل هذا ؟

لماذا أتصور وأنا انظر إلى هذه الأحصنة إنني واحد منها , قد أكون أنا الأخير في طرف اللوحة , ذاك الذي ترتسم على وجهه نظرة ساهمة غريبة تختلف تماما عن الملامح والنظرات التعبة المنهكة في الاثنين المتقدمين في صدر اللوحة , كأننا عائلة واحدة , أب وأم وولد يسير خلفهما بهدوء واتزان , لماذا أراني أكثر رمادية من أبوي , أكثر ميلا إلى الظل والعتمة , هكذا يترك في الفنان هذا الإحساس بالتماهي مع أشياءه , هو يرسم في الغربة وأنا أتجسد في مفرداته كما أريد أنا لا كما يتركه هو على قماشته , هذه العلاقة الفذة الرائعة بين المتلقي والمبدع , علاقة أدرك أبعادها منذ زمن بعيد
الفنان التشكيلي محمد رسول البستاني, واشتغل عليها طويلا حتى أصبحت لديه ملكة أو جزءا من فاعلية المفردة الفنية لديه , لونا وخطا ومساحة .

عندي أن الحديث عن أي اثر إبداعي , قد لا تحيط به المفردات أبدا , وعندي إن اللوحة خلق لا يسعك إلا أن تنشد إليه مبهورا وتترك الكلام لنفسك لتحدثك من الداخل حديثا لا ينتهي أبدا .
طوبى لمحمد رسول وأحصنته في غربتها .
وطوبى لكل الغرباء .
14 / 1 / 2008
محيي الدين الجابري
شاعر عراقي
 






لي منك هذه البقايا التي تنهش الروح . هذه الهشاشات من الألماح الطرية , التي أعب منها خيالاتي صباح مساء / ولي منك قبل كل هذا وذاك قراضة أحلام فضية تتراكم منذ أمد , كأنني سأعود ثانية / محملا بكل كلمات الحنين / وشوق اللحظة / لكن حائط مبكانا القديم لم أجده كما هو ... البناء كان في الموقع ذاته / لكن البوابة مقفلة / تلك التي تمنيت طويلا أن تقفل علينا في ساعات الليل لنشعر بشيء من الطمأنينة في زمن الخوف والرعب / لكن كرم آل المرشدي كان يأبى أبدا أن يكون الباب مقفلا . . . .
اليوم / وجدتها مقفلة / المدخل كله مقفل / حتى النظرة التي تمنيت أن أختلسها / لم أجدها / لم أتمكن منها / عندها عرفت أن العالم تغير / وأن الزمن كان قد قطع بنا أشواطا . .
تحسست شعر لحيتي / وعرفت دون أن أنظر في مرآة ما / أن البياض هو الذي تبقى لنا / لا غير .
ولنا أيضا هذه الصور, أشباه لحظات ضائعة / وألوان لوحات متراكمة في الزوايا / ظلال وأضواء / وأشعة شمس لا نتمنى أن نراها في صباحات عراق يحكمه الدكتاتور / أشعة شمس تفرح لها حتى العصافير / لكننا كنا كائنات ليلية / هاربين من الجبهات / هروبا كان أطوله هروب المرشدي الذي نجتمع إليه / وكان لكل منا تجربته مع الخوف / تجربة مع دم يتيبس في عروق الجسد كلما رأينا لونا خاكيا / حتى الجندي العادي الذي هو أكثر رعبا منا كان زيه يخيفنا / وكنا نخشى دائما من هذا وذاك من معارفنا / أن يدرك حقيقة ما نحن عليه من مخاطر ومجازفات .
غرفة المرشدي / أو مشغله والمرسم الذي يعمل فيه / أو هي فيرميناداثا / أو براثاسكل / فيها تصدح أنغام الحب كل ليلة / وفيها ينتشر عبق جولاتنا في العصر كل مساء / ذكريات , وصور , وتجارب , وآلام / وحنين , ورغبة , وقصص حب فاشلة , تتراكم / وقوانين سهر لم نضعها بل وجدنا أنفسنا نعرفها جميعا / حتى من ينضم إلى المجموعة حديثا / على أن الكثيرين منا كانوا لا يجدون في هذه الزاوية من العالم ما نجده نحن من الملاذ الآمن – نسبيا –
هي سخرية / وغرابة / أن تحتل أنت وأصدقائك يا رسول / نصف البيت ذي الغرفتين فقط / بينما يحتل أهلك كل أهلك النصف الآخر أو قل الغرفة الأخرى /
لكنه الحب وحده الذي استطاع أن يحل المعادلة الصعبة طوال تلك السنين /
إخوتك مع والديك في غرفة واحدة / ونحن في الغرفة الأخرى لنا ضجيجنا / نقاشاتنا / صياحنا غضبنا همسنا / ذكرياتنا / حكايا سرية عن تلك أو هذه ممن نعرف أو لا نعرف / خليط من الهياجات التي لا تنتهي إلا إلى حوارات ساخنة أخرى , وأحاديث في السياسة / تقفل دائما على ذكر سيء الذكر طاغية زماننا الذي سرق منا كل شيء / واختزل تلك الأعمار الغضة إلى حديث ذكريات بائس /
يا حائط مبكانا القديم / الذي نحمله في جنباتنا أينما اتجهنا / أين أنت منا اليوم / بعد كل هذا التجوال المخيف / وهذه الرحلات الممتدة منذ سنين وسنين ....
كأنما أنت زهرة خشخاش نجرحها بين أمد وأمد / لتسيل دموعا .... وحنينا
على حائط مبكانا القديم / كانت الألوان تشع في الصباحات / تشرق في فترة بعد الظهر كأنها تستجيب لرائحة بخار العنبر المشخابي اللذيذ , حين تعده الخالة أم رسول , مع الكثير من بهار (( الهله )) و (( المرحبا )) / و ذلك الوجه المرحب دائما بكل من يأتي / الأخوة يخرجون إلى العمل في الصباح والأب معهم / وأصدقاء رسول المرشدي تنقل إليهم الأواني في ساعة الغداء في حين يكدح الآخرون من أجل لقمة العيش / ويكدح رسول المرشدي من أجل دنانير معدودة يستحصلها من لوحات البورتريه لفلان أو فلان .
على حائط مبكانا القديم تعرفنا إلى اللون واللوحة نحن الذين ننحدر من بيوت الفقه والأصول في النجف ولا نعرف من الثقافة إلا أمريء القيس / والمتنبي / وإذا تطورنا قليلا فقد نكون تعرفنا على إيليا أبو ماضي / أو جبران خليل جبران / مع معرفة لا بأس بها بالعقاد وطه حسين وكثير من الشعر الذي هو الفن الأكثر انتشارا في النجف وبيئاتها العلمية / لكننا لم نكن نعرف أبدا أي شيء عن الرسم واللوحة والفنون البصرية / لم تكن لنا إلا معرفة ضئيلة بالمسرح والسينما / لكن ذلك المكان الذي آوانا سنين عديدة لم يكن مشغلا أو مرسما لفنان تشكيلي كرسول المرشدي حسب / بل كان مشغل أفكارنا ومتابعاتنا / وحواراتنا حول ما نقرأه ليل نهار من روايات حديثة وكتب نقد ومسرح وسينما /
في ذلك المكان الذي تحتفل فيه الألفة بالمعرفة / عرفت رامبرانت / ودافنتشي / ومايكل أنجلو / وتعرفت على فائق حسن / والرحال / وكاظم حيدر / والناصري / وغيرهم من الفنانين العراقيين / وهناك تعرفت أيضا على عمالقة الفنون الأخرى في السينما والمسرح والموسيقى / ومن هناك أيضا أخذت الكثير من المعرفة في عالم الأدب الحديث / رواية وشعرا / كنا ببساطة نتلاقف أي شيء يصل إلينا من المعرفة / كان نهمنا كبيرا ورغبتنا لا توصف في التهام كل سطر وكل ورقة / حتى إنني قرأت في تلك الفترة كتابا عن السينما مترجما عن الإنجليزية طبعته وزارة الإعلام آنذاك وكان اسمه ( فن السينما ) كان الكل يتهرب من قراءته لسبب بسيط أنه يقع في ما يقرب من ألفي صفحة وكان يشكل علامة بارزة في مكتبة المرشدي لأنه الأضخم على الإطلاق والطريف في الأمر أن المرشدي كان يسميه ( المخدة ) وكان كثيرا ما يدعم به خشبات لوحاته حين يشرع في مغازلة اللون بإيقاع منسجم مع حركة ريشته الفاتنة .
هناك تعرفت على رائحة الزيت والأنواع الأخرى من الألوان وأدوات الرسم ومفردات التشكيلين / وهناك صرت أحب رائحة الخشب المختلطة برائحة الزيت وصار مشهد صديقي الفنان رسول المرشدي ويداه منقوعتان ملطختان بألوان الزيت أثيرا عندي كأنما أنا في تلك اللحظة أرى مشهدا من مشاهد الخلق الكوني / لا لحظة من لحظات إبداع رتيب تعوده المرشدي من كثرة ما استغرق في العمل على البورتريه / ليواصل العيش .
كنت أدرك تماما أن ذلك الشاب سيفتح يوما ما نافذة واسعة على عالم الفن ويزينها بالكثير من أعماله الإبداعية / لم نكن نفكر يوما - ونحن في السادسة عشرة أو أكثر أو أقل قليلا - أن العالم سيتغير بنا إلى هذا الحد / كنا نعرف تماما قدراتنا وطاقاتنا / وكنا ندرك حجم ما نحن فيه من الضياع / وسببه . . لكننا لم نكن أبدا قادرين على التغيير أو الخروج من تلك الحياة الخانقة التي كنا نزينها بالضحك المتواصل من أجل أن نبقى / كأننا أدركنا دون اتفاق مسبق أن الضحك هو الوسيلة الوحيدة المتوفرة لدينا للدفاع عن أنفسنا أمام موت يستشري في شارع عراق الدكتاتور / موت رخيص نسمع في بعض الصباحات أصوات رصاصاته في الحامية العسكرية في النجف وهي تلعلع قبل أن تجهز موائد إفطار الناس معلنة إعدام طائفة أخرى من شبابنا المتهمين بالهروب من الخدمة .
حائط مبكانا القديم / كيف استطعت أن تتحمل ثقل تلك الأيام السود / وأن تبقى شاهدا على عمر ضائع / وحياة حلوة مرة / تشبه إلى حد بعيد طعم الدواء المحلى الذي يعالج به الأطفال . . . حياة كان لابد لها أن تستمر وإن ترجل منا أحدنا يوما . . . . أو سقط لنا صديق في الجبهات أو في الحاميات العسكرية .
لم أكن حين شرعت في الحديث عن حائط رسول المرشدي / أرغب أن يكون حديثي حزينا . . . هكذا . . . لكنه حائط مبكى . . . .
فماذا عليك أن تقول أمام حائط مبكى ؟ ؟ ؟ ؟

محيي الدين الجابري / النجف 30-2-2008







فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان به عندي جديرا .


هذه كلمات أمير المؤمنين وسيد الوصيين صلوات الله عليه وهو يتحدث في خطبة الجهاد الشهيرة عن أسف المؤمن الحقيقي وحزنه على ما يحدث من ظهور الباطل على الحق , وتجمع أهله حول قادته على باطلهم , وتفرق أهل الحق عن قادته مع حقهم .
مقتطف من كلام سيد البلغاء صلوات الله عليه قفز إلى ذهني وأنا أفكر بالكتابة عن السيد هاشم الطالقاني الأستاذ القاص , والأديب المبدع والتربوي الجليل .
عرفته وأنا طفل في الخامسة أو الرابعة من عمري / لا أذكر / لكن ذلك كان قبل المدرسة تماما / عرفته شابا بهي الطلعة / يختلف عن أصدقاء أبي بأناقته المفرطة / وبزيه المختلف عنهم / فهو الأفندي الوحيد بين مجموعة من أصحاب العمائم من أصدقاء الوالد / كانوا يجتمعون عندنا في ( الأرسي ) غرفة في الطابق الثاني تطل على ساحة البيت بشناشيل قديمة / والأرسي تعرفه بيوت النجف القديمة و لا يخلو بيت قديم الطراز منه / وفي بيتنا القديم في شارع الرسول كان الأرسي ملتقى أدبي يجتمع فيه أصدقاء الوالد / يقرأون شعرا / ويتحدثون بأشياء لا نفهمها نحن الصغار لكن موسيقى الشعر كانت تأخذنا بعيدا في أجواء من الخيال الخصب / حتى أننا كنا نحفظ الكثير من مقطوعات الشعر التي يقرأون , ونحن لما ندخل بعد مدرسة / ولم نعرف العربية كما ينبغي /

هذه كانت معرفتي الأولى به والتي استمرت لسنين طوال أيام كان الوالد معنا في النجف قبل سفره لاستكمال دراسته في باريس / بعدها بقليل بدأ الزمن الصعب زمن الفاشية والرعب / وتفرق جمع جيل النجف الشعري ذاك / وانتقلنا نحن من بيت إلى بيت هربا من عيون أمن الطاغية / أو تغييرا لحال تفرضه أوضاع الأسرة الاقتصادية التي تردت كثيرا / لم أكن أعرف أن جمع الرابطة الأدبية - التي طالما كنت ألعب في ساحة بنايتها وأنا صبي - قد انفرط عقده , وتشتت أصدقاء الوالد من أعضاء تلك الجمعية العتيدة كل تحت نجمة وسماء في هذا العالم .

كانت تلك بدايات معرفتي بالسيد هاشم الطالقاني رحمه الله / لكنها كانت معرفة غير واعية / معرفة طفولية لا تعتني إلا بظواهر الأشياء / وما هي إلا سنوات قصيرة حتى بدأت أنا هذه المرة أطوف في عالم الأدب والشعر بحثا عن هوية ما / لهذا الذي يعتلج في صدري من موسيقى الكلام ونغمات الألفاظ .
يومها كنت أتحرك وحدي / أرسم طريقي في عالم الشعر بريشة الخيال / وألونه بكآبة مراهقة / لا تعرف غير المعاناة والألم / لكنني كنت أتابع مع كل ما يحيط بي من ظرف صعب / أتابع ما يصدر أو ينشر أو يقال عن الشعر والأدب / وما يترجم أو يطبع كتبا أو صحفا أو غير ذلك / كانت تلك بالنسبة لي فترة زمنية حاشدة بالمعرفة والتعرف على الأشياء / كنت ذات مرة أتصفح مجموعة من الكتب في مكتبة الدار الوطنية في النجف / وقد اخترت منها عناوين أدبية كانت قد صدرت حديثا / وقبل أن أغادر المكتبة حاملا معي ما اشتريت من مطبوعات جديدة / صادفني السيد هاشم الطالقاني عند مدخل المكتبة / فرحت كثيرا بالسلام عليه والسؤال عنه / كان قد تغير كثيرا واستحال لون شعره إلى خليط من البياض والسواد معا / لكنه كان كما عرفته دائما ملتزما بتفاصيل الأناقة الكاملة / أفنديا من الطراز الأول / حتى أزرار القميص الذهبية في أكمامه كانت تشع بريقا ولمعانا ينم عن احترام كامل لتفاصيل نسيها الكثيرون في زحمة حياة الثمانينيات الأولى / كان ذلك في العام 1985 وكان اتحاد الأدباء في النجف قد تأسس حديثا / وكنت قد حضرت مؤتمره التأسيسي فرحا بالانتساب إلى مثل هذا الصرح المهيب / سألني السيد هاشم عن أحوال الأسرة وأخبار الوالد وظروف معيشتنا / وبحكم ما رآني عليه من اهتمام بالكتاب وعناوين الأدب سألني بجدية مستفسرا عما أقرأ وعما إذا كنت أكتب شيئا أم لا . وأجبته بكل اعتزاز إنني اكتب الشعر , وأقرا الكثير عنه , وعن الفنون الأخرى وإنني أنتسب إلى اتحاد الأدباء / ساعتها لاحظت علامات الدهشة ترتسم على وجهه مع شيء من الامتعاض / سألني عن الاتحاد الجديد هذا / فأجبته / وكان سؤاله حذرا جدا ومنصبا على دور السلطة وحزبها في هذا التشكيل الأدبي / كان خوفه علي واضحا جدا / وقد حذرني بشدة من اغواءات مؤسسات الطاغية / وما فيها من مغريات / لكنني استطعت بعد جهد وتأكيد / أن انتزع من قلبه بذور الشك / طمأنته كثيرا / وسألني بدوره عمن يحضر هناك / قلت له فلان وفلان / وشعرت أنه أحس بشيء من الراحة للأسماء التي ذكرتها / . . .
بعد هذا اللقاء القصير / عدت سريعا إلى البيت / وإلى مكتبتي بالذات لأعيد اكتشاف هذا السيد الجليل / ثقافيا هذه المرة / هرعت إلى أعداد مجلة الرابطة الأدبية / وإلى حلقات ندوة عبقر ومجلة النجف الأشرف التي صدرت عن كلية الفقه في الستينات / وفي كل هذا قرأت ما نشر له رحمه الله من قصص قصيرة / ونقدا أدبيا . . .
أيام أو أسابيع / لا أذكر بالضبط / كانت قد مرت على ذلك اللقاء / قبل أن أفاجأ بالسيد هاشم الطالقاني يحضر أمسيات الاتحاد / عاد إلى الأجواء المفعمة بأدب النجف وشعرها صوته الرخيم / فرحت كثيرا بذلك الجمع الجليل من الشيوخ والأدباء / كنت اعتبر نفسي واحدا منهم وكانت لي جرأتي الوقحة أحيانا وأنا أدافع عن نصوصي الأدبية التي أقرأها عليهم وهم يتناولونها بالنقد والتشريح والتشجيع بجدية كبيرة / يومها لم أكن قد تجاوزت التاسعة عشرة من العمر / شابا مندفعا / جريئا / مخاصما / ميالا إلى الحوارات العنيفة الصاخبة / والنقاش الممتد لساعات حول تلك المفردة / أو هذه التجربة الشعرية / أو ذلك الموضوع / إلى غير ذلك . . . .

كان هو يبارك في هذه الروح المندفعة / يشجعني / بل يدفعني أحيانا كثيرة إلى فعل المزيد وإنتاج ما هو أكبر وأكثر في عالم الأدب / حدثني يوما على سبيل التشجيع ونقل التجربة عن ندوة عبقر التي تعرفها الأوساط الأدبية في النجف / والتي أسسها هو ومجموعة من الأدباء النجفيين الشباب نهاية الستينات ومطلع السبعينات / وأصدرت سلسلة من حلقات مجلة عبقر لا يزال البعض يحتفظ بأعدادها / ويؤثر أن يحرم سجلات التاريخ من هذه العلامة البارزة في التاريخ الثقافي النجفي على أن يفرط بها / حدثني هو رحمه الله عن تلك الفترة وعن اندفاعة الشباب تلك / وكيف كانوا يعملون ليل نهار من اجل إنجاح التجربة ويجتمعون في بيت الشاعر الصديق عبد الأمير جمال الدين في منطقة النزلة أو الشوافع / تلك المنطقة البعيدة تماما عن أضواء النجف ومنتدياتها / لكنهم مع تلك البساطة وقلة الأمكانات استطاعوا أن يصدروا أكثر من خمسة أو ستة أعداد من تلك المجلة وان يعقدوا الكثير من حلقات الأدب في تلك الندوة / حتى انه أخبرني يوما عن اندفاعه الشديد تلك الأيام إذ بلغ به حماس الشباب أن يدعو المفكر الفرنسي الكبير جان بول سارتر إلى النجف لحضور ندوة عبقر / قال لي إنه أرسل رسالة إلى سارتر يدعوه فيها إلى زيارة النجف / ولقاء محاوريه فيها ممن كان في تلك الفترة يهتم كثيرا بما يطرحه مفكرو الغرب خاصة وجودية سارتر التي كانت حديث الساعة في الأوساط النجفية الأدبية وفي الوسط الشبابي بالذات / وأخبرني أن الطريف في كل هذا هو استجابة سارتر للدعوة وترحيبه بها ووعده بالمجيء إلى النجف بل الغريب أن الرجل كان يعرف الكثير عن هذه المدينة المقدسة بما فيها من الفكر الخلاق المبدع , والإنجازات الفكرية والفلسفية الكبيرة / ولا أذكر بالضبط هل أخبرني السيد هاشم رحمه الله عن سبب عدم مجيء سارتر إلى النجف أم لا لكن من المؤكد أن ذلك لم يتحقق .
تغير العالم , بعد عقد السبعينات وتغيرت النجف , وهكذا بعد عقد الثمانينات أيضا / انتهت الحرب / الأولى / وبدأ عقد التسعينات مع حرب جديدة /
يومها كان السيد هاشم الطالقاني يمارس مهنة التدريس في إعدادية النجف المركزية / وكان كثيرا ما يهتم بمكتبة الإعدادية / بل كانت هي شغله الشاغل / حتى أن أخوتي الذين كانوا يدرسون في تلك الإعدادية اخبروني انه ترك التدريس وانزوى في تلك المكتبة / يصنف عناوينها / ويرتب رفوفها / ويعتني بمفرداتها / كانت بالفعل مكتبة قيمة / تضم عددا كبيرا من العناوين / وكانت تعد من مكتبات النجف الكبيرة / على كثرة وضخامة ما في النجف من مكتبات .

أين أصبح الأدب / إلى أين وصل الإبداع الأدبي / أين رست سفينة القصة القصيرة والشعر والنقد يا سيد هاشم / لا أحد يدري /

ثم جاء الزلزال الكبير / حرب الكويت / انتفاضة آذار الخالدة / ثم الحصار / خرجت من النجف بعد انتهاء أحداث الانتفاضة الشعبانية المجيدة / وانقطعت عني أخبارها وأخبار أهلها / تغير كل شيء وتغير العالم مرة أخرى / أخبرني أخي الذي عاد بعد الانتفاضة إلى النجف وإلى الدراسة في الإعدادية لأيام قلائل قبل أن يشعر بخطورة الموقف الأمني ويفر هاربا من العراق هو الآخر بعد فرارنا أنا وأخي الأوسط / أخبرني أنه رأى السيد هاشم الطالقاني في إعدادية النجف في صالة المكتبة بالذات / لكن لا السيد هو السيد / ولا المكتبة هي المكتبة / كان يجمع رماد الكتب التي في سطل صغير ويلقي به إلى الخارج / كأنه يحاول أن يجمع شتات العناوين / وأخلاط الأسماء / وتاريخ هذه المدينة الخالدة / محتويات الكتب / وأغلفة المجلدات الضخمة / لقد أحرقت مخابرات النظام مكتبة الإعدادية لتجهز على كل رمز نجفي / وعلى كل أمثولة تمثل العلم والثقافة والمعرفة والفكر والأدب في هذه المدينة التي ابتليت بالطواغيت وحروبهم وكراهيتهم /

سمعت هذا الخبر من أخي عندي ما التقيته بعد أكثر من عام ونصف في الغربة / وتذكرت يومها أنني رأيت السيد هاشم رحمه الله في المنام عندما كنت في صحراء رفحاء وهو يدخن سيجارة / لم يكن السيد من المدخنين / وتعجبت من تلك الرؤيا الغريبة / يومها فسر لي أحد الأصدقاء ذلك الحلم بسذاجة كبيرة قائلا إن السيد رحمه الله مقهور جدا ( أي يشعر بحزن كبير ) عرفت بعد ذلك لماذا كان السيد حزينا / وحين وصلنا خبر وفاته بعد اشهر تذكرت مقولة المولى أمير المؤمنين صلوات الله عليه . وعرفت كيف يموت الإنسان المؤمن كمدا . . .

بعد أن عدت إلى الوطن / وإلى النجف بالذات / أحزنني كثيرا أن أجد النسيان يطوي كل هذه الصفحات / وأن لا أجد أحدا من أهل النجف يذكر أولئك العمالقة من أهلها / ولم أقرأ في كتاب أو صفحة جريدة أو مطبوعة شيئا عن السيد الطالقاني رحمه الله / ولا عن أمثاله من الجنود المجهولين الذين ساهموا في بناء الصرح النجفي الخالد ثقافيا وأدبيا / ولا أجدني بعد كل هذا مغاليا أو حلميا خياليا / حين أدعو من منبر بير عليوي / هذه الموسوعة الأثيرة الرائعة / كل أصدقاء السيد هاشم الطالقاني / وأحبائه ممن يحملون عنه كل ما هو طيب وعطر من الذكريات أن يسارعوا للكتابة عن هذا الرجل الفذ / قبل أن يذهب ما تبقى ذهاب ما مضى من الأيام والأحداث . . . .

رحمك الله يا سيد هاشم , وإلى جنان الخلد / نم قرير العين / فالطاغوت انتهى إلى غير رجعة وبقيت مدينتك المقدسة خالدة في وجدان البشرية / وستبقى إلى الأبد / ما دامت تنجب الأفذاذ أمثالك .

محيي الدين الجابري - النجف 1-2-2008